كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذَا فِي الْإِحْصَارِ، فَأَمَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يُخَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ اخْتَارَ الْهَدْيَ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ بَدَنَةً نَحَرَهَا، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ بَدَنَةً وَبَلَغَ بَقَرَةً ذَبَحَهَا، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ وَبَلَغَ شَاةً ذَبَحَهَا، وَإِنْ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ جَمَاعَةٌ شَاءٍ أَجْزَأَهُ.
وَمَنْ يُوجِبُ النَّظِيرَ مِنْ النَّعَمِ، فَإِنَّهُ إنْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْهَدْيِ أَهْدَى بِمَا حَكَمَ بِهِ مِنْ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السِّنِّ الَّذِي يَجُوزُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ إلَّا مَا يُجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ وَفِي الْإِحْصَارِ وَالْقِرَانِ».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: «يُجْزِي الْجَفْرَةُ وَالْعَنَاقُ عَلَى قَدْرِ الصَّيْدِ».
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ هَدْيٌ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْإِحْرَامِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا فِي سَائِرِ الْهَدَايَا الَّتِي تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِالْإِحْرَامِ أَنَّهَا لَا يُجْزِي مِنْهَا إلَّا مَا يُجْزِي فِي الْأَضَاحِيِّ، وَهُوَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَصَاعِدًا، فَكَذَلِكَ هَدْيُ جَزَاءِ الصَّيْدِ.
وَأَيْضًا لَمَّا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَدْيًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُطْلَقَةِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَا يُجْزِي دُونَ السِّنِّ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى شَاةً فَوَلَدَتْ ذُبِحَ وَلَدُهَا مَعَهَا.
فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا وَلَدُ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ تَبَعٌ لَهَا، فَيَسْرِي الْحَقُّ الَّذِي فِي الْأُمِّ مِنْ جِهَةِ التَّبَعِ، وَلَيْسَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ مَا كَانَ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ بِالِاتِّبَاعِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَالٍ وَعِتْقُهُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ وَلَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ إيجَابِ هَذَا الْحُكْمِ لَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّبَعِ وَالدُّخُولِ فِي حُكْمِ الْأُمِّ؟ وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ هُوَ مُكَاتَبٌ وَهُوَ عُلُوقٌ وَلَوْ ابْتَدَأَ كِتَابَةَ الْعُلُوقِ لَمْ يَصِحَّ؛ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وقَوْله تَعَالَى: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صِفَةٌ لِلْهَدْيِ، وَبُلُوغُهُ الْكَعْبَةَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَرَمَ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْحُرْمَةِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رِبَاعُهَا لِأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْكَعْبَةِ عَنْ الْحَرَمِ، وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ»؛ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَمَعَالِمُ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ مُنِعُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْحَجِّ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَوَاضِعِ تَقْوِيمِ الصَّيْدِ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ: «يُقَوَّمُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي فَلَاةٍ فَفِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْعُمْرَانِ إلَيْهَا»، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «يُقَوَّمُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى».
وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ كَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ، فَيُعْتَبَرُ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاسْتِهْلَاكُ لَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْقِيمَةُ؛ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ مَكَّةَ وَمِنًى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبِقَاعِ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَجُوزُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الظَّبْيِ بِشَاةٍ وَلَمْ يَسْأَلَا السَّائِلَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ.
قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونُ السَّائِلُ سَأَلَ عَنْ قَتْلِهِ فِي مَوْضِعٍ عَلِمَ أَنَّ قِيمَتَهُ فِيهِ شَاةٌ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فَإِنَّهُ قُرِئَ {كَفَّارَةُ} بِالْإِضَافَةِ، وَقُرِئَ بِالتَّنْوِينِ بِلَا إضَافَةٍ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِ الطَّعَامِ، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءُ وَمُجَاهِدُ وَمِقْسَمُ: «يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ».
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً: «يُقَوَّمُ الْهَدْيُ ثُمَّ يَشْتَرِي بِقِيمَةِ الْهَدْيِ طَعَامًا»، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا.
وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَالثَّانِي قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ، فَلَمَّا كَانَ الْهَدْيُ مِنْ حَيْثُ كَانَ جَزَاءً مُعْتَبَرًا بِالصَّيْدِ إمَّا فِي قِيمَتِهِ أَوْ فِي نَظِيرِهِ؛ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} إلَى قَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فَجَعَلَ الطَّعَامَ جَزَاءً وَكَفَّارَةً كَالْقِيمَةِ؛ فَاعْتِبَارُهُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْهَدْيِ، إذْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ الصَّيْدِ وَجَزَاءٌ عَنْهُ لَا مِنْ الْهَدْيِ.
وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقُوا فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ أَنَّ اعْتِبَارَ الطَّعَامِ إنَّمَا هُوَ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مُنْتَظِمَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا فِي أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ اعْتِبَارُ الطَّعَامِ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ كَانَ الْآخَرُ مِثْلَهُ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا أَرَادَ الْإِطْعَامَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَلَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفِ.
وقَوْله تَعَالَى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَمِقْسَمٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: «لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا»، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا».
وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ لِأَنَّ «أَوْ» يَقْتَضِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ رِوَايَةً؛ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ مِثْلُهُ؛ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّرْتِيبِ زَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَشُرَيْحٍ: «إنْ عَادَ عَمْدًا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَنْتَقِمُ مِنْهُ».
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: «كَانُوا يَسْأَلُونَ هَلْ أَصَبْت شَيْئًا قَبْلَهُ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ لَا حُكِمَ عَلَيْهِ».
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: «يُحْكَمُ عَلَيْهِ أَبَدًا».
وَسَأَلَ عُمَرَ قَبِيصَةُ بْنَ جَابِرٍ عَنْ صَيْدٍ أَصَابَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ أَصَبْت قَبْلَهُ شَيْئًا.
وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ} يُوجِبُ الْجَزَاءَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ}.
وَذِكْرُهُ الْوَعِيدَ لِلْعَائِدِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ حَدَّ الْمُحَارِبِ جَزَاءً لَهُ بِقَوْلِهِ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؟ فَلَيْسَ إذًا فِي ذِكْرِ الِانْتِقَامِ مِنْ الْعَائِدِ نَفْيٌ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ.
وَعَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعَائِدُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ لِصَيْدٍ آخَرَ قَبْلَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَمَنْ عَادَ يَعْنِي بَعْدَ التَّحْرِيمِ» وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ صَيْدٍ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ؛ وَإِذَا كَانَ فِيهِ احْتِمَالُ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْعَائِدَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الِانْتِقَامُ.
قَوْله تَعَالَى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يُحْتَجُّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمُحْرِمِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ مَا أَكَلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْغُرْمَ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ بِإِخْرَاجِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ رَجَعَ مِنْ الْغُرْمِ فِي مِقْدَارِ مَا أَكَلَ مِنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ ذَائِقٍ بِذَلِكَ وَبَالَ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ غَرِمَ شَيْئًا وَأَخَذَ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ ذَائِقًا وَبَالَ أَمْرِهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: «إنْ شَاءَ الْمُحْرِمُ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الطَّعَامِ يَوْمًا، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ بَعْضٍ وَأَطْعَمَ بَعْضًا» فَأَجَازُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَعَ الْإِطْعَامِ فَلَمْ يُجِيزُوا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَفَرَّقُوا أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِأَنْ يَعْتِقَ نِصْفَ عَبْدٍ وَيُطْعِمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ.
فَأَمَّا الصَّوْمُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَجَازُوا الْجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّعَامِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصِّيَامَ عَدْلًا لِلطَّعَامِ وَمِثْلًا لَهُ بِقَوْلِهِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ عَدْلُ ذَلِكَ يَكُونُ مِثْلًا لَهُ فِي حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ؛ إذْ لَا تَشَابُهَ بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي قِيَامِهِ مَقَامَ الطَّعَامِ وَنِيَابَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ صَامَ بَعْضًا، فَكَأَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَ بِقَدْرِ ذَلِكَ فَجَازَ ضَمُّهُ إلَى الطَّعَامِ فَكَانَ الْجَمِيعُ طَعَامًا.
وَأَمَّا الصِّيَامُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الطَّعَامِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلطَّعَامِ لَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ فَالصَّوْمُ فَرْضُهُ بَدَلًا مِنْهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ، كَالْمَسْحِ عَلَى أَحَدِ الْخُفَّيْنِ وَغَسْلِ الرِّجْلِ الْأُخْرَى وَكَالتَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ وَمَا جَرَى مُجْرَى ذَلِكَ.
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ وَالطَّعَامُ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَإِذَا أَعْتَقَ النِّصْفَ وَأَطْعَمَ النِّصْفَ فَهُوَ غَيْرُ فَاعِلٍ لِأَحَدِهِمَا فَلَمْ يُجْزِهِ، وَالْعِتْقُ لَا يَتَقَوَّمُ فَيُجْزِي عَنْ الْجَمِيعِ بِالْقِيمَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَكْسُوَ خَمْسَةً وَيُطْعِمُ خَمْسَةً فَيُجْزِي بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ مُتَقَوِّمٌ فَيُجْزِي عَنْ أَحَدِهِمَا بِالْقِيمَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} يَنْتَظِمُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ إذَا قَتَلُوا فِي إيجَابِ جَزَاءٍ تَامٍّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ «من» يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ فِي إيجَابِ جَمِيعِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قَدْ اقْتَضَى إيجَابَ الرَّقَبَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ إذَا قَتَلُوا نَفْسًا وَاحِدَةً؛ وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} وَعِيدٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} وَعِيدٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَتَدَافَعُونَهُ، وَإِنَّمَا يَجْهَلُهُ مَنْ لَا حَظَّ لَهُ فِيهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالدِّيَةُ إنَّمَا دَخَلَتْ فِي اللَّفْظِ حَسَبَ دُخُولِ الرَّقَبَةِ.
قِيلَ لَهُ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَعُمُومِهِ إيجَابُ دِيَاتٍ بِعَدَدِ الْقَاتِلِينَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى دِيَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِيهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ قَتَلَاهُ عَمْدًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَاتِلِ لَهُ عَلَى حِيَالِهِ وَيُقْتَلَانِ جَمِيعًا بِهِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لَا يَرِثُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ بَعْضَهُ لَوَجَبَ أَنْ لَا يُحْرَمَ الْمِيرَاثَ مِمَّا قَتَلَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ؟ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَا يَرِثَانِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ قَاتِلٌ لَهُ وَحْدَهُ، كَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ إذْ كَانَتْ النَّفْسُ لَا تَتَبَعَّضُ، وَكَذَلِكَ قَاتِلُو الصَّيْدَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلصَّيْدِ عَلَى حِيَالِهِ؛ فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ تَامَّةٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى ذَلِكَ كَفَّارَةً بِقَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وَجَعَلَ فِيهَا صَوْمًا، فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا، وَأَنْتَ تَقُولُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ جَزَاءَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا الْجَزَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءَانِ وَثَلَاثَةٌ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} وَلَمْ يَقُلْ: «قَتَلُوا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ «شَرْحِ الْمَنَاسِكِ».